مجتمع العمل
DOI:
https://doi.org/10.31436/attajdid.v15i30.106Abstract
تقديم
اقتنيت كتاب الأستاذ مصطفى الفيلالي بعد وقت قصير من صدوره لا يتجاوز بضعة أشهر، لما كنتُ أعلمه عن مكانة المؤلف، فهو رجلُ سياسة ونقابيٌّ ومثقفٌ تنوعت خبراته، وتعددت مواقع فعله، وشهدت كثير من المنابر الفكرية والثقافية لحضوره الفكري المتميز، محاورًا لبقًا، ومجتهدًا لمد جسور التواصل وتقريب الشقة بين الفرقاء المتباعدين من منطلق الحريص على تزكية عوامل التكامل وتوطيد عناصر الخير. إلا أن شواغلَ صرفتني عن إتمام قراءة فصول الكتاب والوقوف عند بعض مهماته بعد أن قطعت فيه شوطًا لا بأس به، على الرغم مما كنت أشعر به من قيمة الأفكار التي ينطوي عليها بالنسبة إلى مساقات الفكر السياسي والاجتماعي ومساراته في تونس خاصة والعالم العربي عامة. وما أن هبت نسائم "الربيع العربي"، وبدأت أزاهيره تتفتح وأسفر صبحُه بنجاح انتخابات المجلس التأسيسي في تونس على نحو غير مسبوق في بلاد العرب شفافيةً في آدائها وسعةَ إقبال عليها، حتى أحسست بصورة الكتاب مرتسمةً أمام ناظرَيَّ لا تفارقني، وكأنما داعٍ يحضني على مراجعته وإعادة قرءاته. فما كان إلا أن عدتُ إلى هذا السفر، أتأمل ما حُشد فيه من معلومات، وأنظر ما سيق فيه من أفكار.
وإذ عدتُ إلى مصنَّف الفيلالي أتصفَّحُه وأتفحَّصُه فيكاد يستغرقني رغم ضخامة حجمه، ألفيتني في الحقيقة أقوم باكتشاف أمر لم يكن قد تبدى لي بوضوح في قراءتي الأولى، فالكتاب يشتمل على أطروحة شاملة في العمل: معنىً وقيمة، ومضمونًا وأبعادًا، ومراتب وأنواعًا، وحوافز ومقاصد، ومغزًى ووظائف، ووسائل وأسبابًا، وعوائق ومؤيدات، وشروطًا ومكملات. وقد صيغت هذه الأطروحة - تحليلاً وتنظيرًا وتأصيلاً - على نحو علمي رصين وبجهد فكري عميق من الدرس التاريخي، والنظر المقارن، والتحليل الاجتماعي، والتأمل الفلسفي، يتخللها وينتظمها جميعًا قدرٌ بَيِّنٌ من الإشراق الروحي، والدافعية الخلقية، والتبصر المستقبلي. بل بدا لي وكأنما المصنف، وهو يستجمع معطيات الكتاب ويحلل مادته ويصوغ حجته ويرتب أفكاره، إنما كان يستشرف وضعًا سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا مستأنَفًا ويرنو إلى عهد جديد يرتقي فيهما إدراكُ الإنسان العربي لقيمة العمل ويستعيد فيه العملُ مكانته في حياة مجتمعاتنا على المستويات كافة، فيكون النهوض وينطلق البناء ويزكو الجهد.
فهل تكون ثوراتُ الربيع العربي - بما أسفر من فجرها في تونس وبما يتصل من انبثاقه في غيرها مشرقًا ومغربًا - هي التي سيتولد منها ذلكم الوضع وينبلج ذلكم العهد، فتجد أفكارُ الكتاب ورؤاه مسالكَ ومداخل إلى ثقافة العمل وبيئاته في مجتمعاتنا؟ ذاك ما نسعى للإسهامِ بشيء منه من خلال هذا العرض، عسى آذانًا واعية تصغي إليه، وعقولاً سديدة تنظر فيه، وقلوبًا حية تنتفع به، وسواعد متينة تنهض به.
بنية الكتاب ومحتواه
بنى مصطفى الفيلالي كتابه "مجتمع العمل" على قسمين: القسم الأول عن "العمل في مجتمع السوق" (ص29-388)، وهو يتكون من سبعة فصول، تناول الفصلان الأول والثاني منها مسائلَ تتعلق بالجانب الاصطلاحي والمفهومي لمعنى العمل وماهيته، بينما تناول الفصلان الثالث والرابع قضايا تخص بيئة العمل وظروفه الزمانية والمكانية والاجتماعية. أما الفصلان الخامس والسابع فجرى التركيز فيهما على الأبعاد الاجتماعية والتنموية للعمل، في حين خُصص الباب السادس للكلام على الحركة النقابية من حيث تاريخها ووظيفتها ومقاصدها ومرجعيتها.
أما القسم الثاني من الكتاب فهو عن "منزلة العمل في الفكر الإسلامي" (ص391-584)، ويشتمل على ثمانية فصول، يدور الأول منها (وهو الثامن في ترتيب الكتاب) على معادلة الحق والواجب في العمل، ويناقش الفصلُ التاسع مغزى العمل من حيث ما يتعانق فيه من أبعاد المصلحة والإيمان والتعبد. ثم يتلو ذلك الفصلُ العاشر الذي خصصه المؤلف للحديث عن العمل من ناحية كونه عقدًا ومسؤولية. أما الفصول من الحادي عشر حتى الثالث عشر فجرى الكلام فيها على بيئة العمل الكونية الطبيعية من حيث ما رُتبت عليه من نظام وتسخير، وكذلك بيئته العمرانية والسياسية. ويدور الفصل الرابع عشر حول العلاقة بين التمكين بالعمل، فبين المقصود بالتمكين ماهية ومصدرًا وذرائع وأطوارا. أما الفصل الخامس عشر فيتساءل فيه المؤلف بحسرة عن مدى وعي الناس وتقديرهم لمغزى أعمالهم وآثارها محيلاً إلى ما جاء في ذلك من آيات قرآنية وأحاديث نبوية. وفضلاً عن ذلك يحتوي الكتاب على عدد كبير من الجداول الإحصائية عن بالعمل والعمال في البلدان العربية وعن أصنافهم وتوزيعهم بين مختلف القطاعات الاقتصادية، وعن الاستثمار والادخار، وعن الهجرة، وعن البطالة، إلخ.
وقد قدم للكتاب الأستاذ الشاذلي العياري السياسي والخبير الاقتصادي التونسي المعروف حيث قرر أنه ليس من المبالغة القول بأن بحث الفيلالي "موسوعة عربية مصغرة حول اقتصاديات العمل، من حيث أبعاده ومقاصده الحضارية والتنموية الشمولية، ومن حيث دورُه في تأسيس التقدم الإنساني، بل في تأسيس أنسنة الإنسان" (ص13).